فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ} معناه فإن تري من البشر أحدًا. فلفظه (إما) مركبة نم إن الشرطية و ما المزيدة لتوكيد الشرط. والأصل ترأيين على وزن تفعلين، تحركت الياء التي هي لام الكلمة وانفتح ما قبلها وجب قلبها ألفاُ فصارت ترآين، فحذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى الراء. لأن اللغة الفصحى التي هي الأغلب في كلام العرب حذف همزة رأى في المضارع والأمر، ونقل حركتها إلى الراء فصارت تراينن فالتقى الساكنان فحذف الأول وهو الألف، فصار ترين فدخلت عليه نون التوكيد الثقيلة فحذفت نون الرفع من أجلها هي، والجازم الذي هو إن الشرطية، لأن كل واحد منمهما بانفراده يوجب حذف نون الرفع، فصار ترين، فالتقى ساكنان هما الياء الساكنة والنون الأولى الساكنة من نون التوكيد المثقلة، لأن كل حرف مشدد فهو حرفان، فحركت الياء بحركة تناسبها وهي الكسرة فصارت ترين، كما أشار إلى هذا ابن مالك في الخلاصة بقوله:
واحذفه من رافع هاتين وفي ** واو ويا شكل مجالس قفي

نحو اخشين يا هند بالكسر ويا ** قوم اخشون واضمم وقس مسويا

وما ذكرنا من أن همزة (رأى) تحذف في المضارع والأمر هو القياس المطرد في كلام العرب وبقاؤها على الأصل مسموع، ومنه قول سراقة بن مرداس البارقي الأصغر:
أرى عيني ما لم ترأياه ** كلانا عالم بالترهات

وقول الأعلم بن جرادة السعدي، أو شاعر من تيم الرباب:
ألم ترأ ما لا قيت والدهر أعصر ** ومن يتمل العيش يرأ ويسمع

وقول الآخر:
أحن إذا رأيت جبال نجد ** ولا أرأى غلى نجد سبيلا

ونون التوكيد في العمل المضارع بعد (إما) لازمة عند بعض علماء العربية. وممن قال بلزومها بعد (إما) كقوله هنا {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَدًا}: المبرّد والزجاج. ومذهب سيبويه والفارسي وجماعة أن نون التوكيد في الفعل المضارع بعد (إما) غير لازمة، ويدل له كثرة وروده في شعر العرب، كقول الأعشى ميمون بن قيس:
فإما تريني ولي لمة ** فإن الحوادث اردى بها

وقول لبيد بن ربيعة:
فإما تريني اليوم أصبحت سالمًا ** فلست بأحيا من كلاب وجعفر

وقول الشنفرى:
فإما تريني كابنة الرجل ضاحيًا ** على رقة أحفى ولا أتنعل

وقول الأفواه الأودي:
إما ترى راسي أزر به ** ماس زمان ذي انتكاس مؤس

وقول الآخر:
زعمت تماضر أنني إما أمت ** يسدد أبينوها الأصاغر خلتي

وقول الآخر:
يا صاح إما تجدني غير ذي جدة ** فما التخلي عن الخلان من شيمي

وأمثال هذا كثيرة في شعر العرب. والمبرد والزجاج يقولان: إن حذف النون في الأبيان المذكورة ونحوها إنما هو لضرورة الشعر. ومن خالفهم كسيبويه والفارسش يمنعون كون للضرورة، ويقولون: إنه جائز مطلقًا. والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)}.
الفاء للتفريع والتعقيب، أي فحملت بالغلام في فور تلك المراجعة.
والحمل: العلوق، يقال: حملت المرأة ولدًا، وهو الأصل، قال تعالى: {حملته أمه كرهًا} [الأحقاف: 15].
ويقال: حملت به.
وكأن الباء لتأكيد اللصوق، مثلها في {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة: 6].
قال أبو كبير الهذلي:
حملت به في ليلة قرءودة ** كرهًا وعقد نطاقها لم يُحلَل

والانتباذ تقدم قريبًا، وكذلك انتصاب {مكانًا} تقدم.
و{قَصِيًّا} بعيدًا، أي بعيدًا عن مكان أهلها.
قيل: خرجت إلى البلاد المصرية فارّة من قومها أن يعزّروها وأعانها خطيبها يوسف النجّار وأنها ولدت عيسى عليه السلام في الأرض المصرية.
ولا يصح.
وفي إنجيل لوقا: أنها ولدته في قرية بيت لحم من البلاد اليهودية حين صعدت إليها مع خطيبها يوسف النجار إذ كان مطلوبًا للحضور بقرية أهله لأن ملك البِلاد يجري إحصاء سكان البلاد، وهو ظاهر قوله تعالى: {فأتت به قومَها تحمله} [مريم: 27].
والفاء في قوله: {فَأَجَاءَها المَخَاضُ} للتعقيب العُرفي، أي جاءها المخاض بعد تمام مدة الحمل، قيل بعد ثمانية أشهر من حملها.
و{أجَاءها} معناه ألْجأها، وأصله جاء، عدي بالهمزة فقيل: أجاءه، أي جعله جائيًا. ثم أطلق مجازًا على إلجاء شيء شيئًا إلى شيء، كأنه يجيء به إلى ذلك الشيء، ويضطره إلى المجيء إليه.
قال الفراء: أصله من جئتُ وقد جعلته العرب إلْجاء.
وفي المثل شرّ ما يُجيئك إلى مُخّة عرْقُوب.
وقال زهير:
وجارٍ سارَ معتمدًا إلينا ** أجَاءته المخافةُ والرجاء

و{المَخاض} بفتح الميم: طَلق الحامل، وهو تحرك الجنين للخروج.
والجذع بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة: العود الأصلي للنخلة الذي يتفرع منه الجريد.
وهو ما بين العروق والأغصان، أي إلى أصل نخلة استندت إليه.
وجملة {قَالَتْ} استئناف بياني، لأن السامع يتشوف إلى معرفة حالها عند إبان وضع حملها بعدما كان أمرها مستترًا غير مكشوف بين الناس وقد آن أن ينكشف، فيجاب السامع بأنها تمنت الموت قبل ذلك؛ فهي في حالة من الحزن ترى أن الموت أهون عليها من الوقوع فيها.
وهذا دليل على مقام صبرها وصدقها في تلقي البلوى التي ابتلاها الله تعالى فلذلك كانت في مقام الصديقية.
والمشار إليه في قولها {قبل هذا} هو الحمل.
أرادتْ أن لا يُتطرق عِرضها بطعن ولا تجرّ على أهلها معرة. ولم تتمن أن تكون ماتت بعد بدوّ الحمل لأن الموت حينئذ لا يدفع الطعن في عرضها بعد موتها ولا المعرة على أهلها إذ يشاهد أهلها بطنها بحملها وهي ميتة فتطرقها القالة.
وقرأ الجمهور: {مِتّ} بكسر الميم للوجه الذي تقدم في قوله تعالى: {ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم} في سورة آل عمران (157). وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، وعاصم، وأبو جعفر بضم الميم على الأصل. وهما لغتان في فعل مات إذا اتّصل به ضمير رفع متصل.
و(النِسْيُ) بكسر النون وسكون السين في قراءة الجمهور: الشيء الحقير الذي شأنه أن يُنسى، ووزن فِعْل يأتي بمعنى اسم المفعول بقيْد تهيئته لتعلّق الفعل به دون تعلق حصل.
وذلك مثل الذبح في قوله تعالى: {وفديناه بذبح عظيم} [الصافات: 107]، أي كبش عظيم معدّ لأن يذبح، فلا يقال للكبش ذبح إلا إذا أعد للذبح، ولا يقال للمذبوح ذبح بل ذَبيح.
والعرب تسمي الأشياء التي يغلب إهمالها أنْسَاءً، ويقولون عند الارتحال: انظروا أنساءكم، أي الأشياء التي شأنكم أن تَنْسَوها.
ووصف النسي بمنسي مبالغة في نسيان ذكرها، أي ليتني كنت شيئًا غير متذكّر وقد نسيه أهله وتركوه فلا يلتفتون إلى ما يحل به، فهي تمنت الموت وانقطاع ذكرها بين أهلها من قبل ذلك.
وقرأه حمزة، وحفص، وخلف {نَسْيًا} بفتح النون وهو لغة في (النِّسي)، كالوتر والوتر، والجسر والجسر.
{فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)}.
ضمير الرفع المستتر في (ناداها) عائد إلى ما عاد عليه الضمير الغائب في {فحملته} [مريم: 22]، أي: ناداها المولود.
قرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص، وأبو جعفر، وخلف، وروح عن يعقوب {مِنْ تَحتها} بكسر ميم من على أنها حرف ابتداء متعلّق ب (ناداها) وبجر {تَحتها}.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، ورويس عن يعقوب {مَنْ} بفتح الميم على أنها اسم موصول، وفتح {تَحْتَهَا} على أنه ظرف جعل صلة، والمعني بالموصول هو الغلام الذي تحتها. وهذا إرهاص لعيسى وكرامة لأمّه عليهما السلام.
وقَيْدُ {من تحتها} لتحقيق ذلك، ولإفادة أنه ناداها عند وضعه قبل أن ترفعه مبادرة للتسلية والبشارة وتصويرًا لتلك الحالة التي هي حالة تمام اتّصال الصبي بأمه.
وأنَّ من قوله: {ألاَّ تَحْزَني} تفسيرية لفعل (ناداها).
وجملة {قَدْ جَعلَ رَبُّكِ تحتك سَرِيًّا} خبر مراد به التعليل لجملة {ألاَّ تحزني}، أي أن حالتك حالة جديرة بالمسرة دون الحزن لما فيها من الكرامة الإلهية.
السرّي: الجدول من الماء كالساقية، كثير الماء الجاري.
وهبَها الله طعامًا طيّبًا وشرابًا طيّبًا كرامة لها يشهدها كل من يراها، وكان معها خطيبها يوسف النجار، ومن عسى أن يشهدها فيكون شاهدًا بعصمتها وبراءتها مما يظن بها.
فأما الماء فلأنه لم يكن الشأن أن تأوي إلى مجرى ماء لتضع عنده.
وأما الرُطب فقيل كان الوقت شتاء، ولم يكن إبان رطب وكان جذع النخلة جذع نخلة ميتة فسقوط الرطب منها خارق للعادة.
وإنما أعطيت رُطبًا دون التمر لأنّ الرطب أشهى للنفس إذ هو كالفاكهة وأما التمر فغذاء.
{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)}.
فائدة قوله: {وَهُزِي إليْككِ بِجِذْعِ النخلة تساقط عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِى} أن يكون إثمار الجذع اليابس رُطبًا ببركة تحريكها إياه، وتلك كرامة أخرى لها. ولتشاهد بعينها كيف يُثمر الجذع اليابس رطبًا. وفي ذلك كرامة لها بقوّة يقينها بمرتبتها.
والباء في {بِجِذْععِ النَّخْلَةِ} لتوكيد لصوق الفعل بمفعوله مثل {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة: 6] وقوله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195]. وضمن {وَهُزي} معنى قَرّبي أو أدني، فعُدي ب (إلى)، أي حرّكي جذع النخلة وقرّبيه يَدْنُ إليك ويَلِنْ بعد اليبس ويُسقط عليك رطبًا.
والمعنى: أدني إلى نفسك جِذع النخلة. فكان فاعل الفعل ومتعلقه متحدًا، وكلاهما ضميرُ معادٍ واحد، ولا ضير في ذلك لصحة المعنى وورود أمثاله في الاستعمال نحو {واضمم إليك جناحك} [القصص: 32]. فالضامّ والمضموم إليه واحد. وإنما منَع النحاة أن يكون الفاعل والمفعول ضميري معاد واحد إلاّ في أفعال القلوب، وفي فعلي: عَدِم وفَقَد، لعدم سماع ذلك، لا لفساد المعنى، فلا يقاس على ذلك منع غيره. والرطب: تمر لم يتم جفافه. والجَنيّ: فعيل بمعنى مفعول، أي مجتنى، وهو كناية عن حَدثان سقوطه، أي عن طراوته ولم يكن من الرطب المخبوء من قبل لأن الرطب متى كان أقرب عهدًا بنخلته كان أطيب طعمًا.
و{تَسَّاقط} قرأه الجمهور بفتح التاء وتشديد السين أصله تتساقط بتاءين أدغمت التاء الثانية في السين ليتأتى التخفيف بالإدغام.
وقرأه حمزة بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين للتخفيف.
و{رُطَبًَا} على هاته القراءات تمييز لنسبة التساقط إلى النخلة.
وقرأه حفص بضم التاء وكسر السين على أنه مضارع سَاقَطَت النخلة تمرَها، مبالغة في أسقطت و{رُطَبًا} مفعول به.
وقرأه يعقوب بياء تحتية مفتوحة وفتح القاف وتشديد السين فيكون الضمير المستتر عائدًا إلى {جِذْع النَّخْلةِ}.
وجملة {فَكُلِي} وما بعدها فذلكة للجمل التي قبلها من قوله: {قد جعل ربك تحتك سريًا} أي فأنت في بحبوحة عيش.
وقرّة العين: كناية عن السرور بطريق المضادة، لقولهم: سَخِنت عينه إذا كثر بكاؤه، فالكناية بضد ذلك عن السرور كناية بأربع مراتب. وتقدم في قوله تعالى: {وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك} [القصص: 9]. وقرّة العين تشمل هناء العيش وتشمل الأنس بالطفل المولود. وفي كونه قرّة عين كناية عن ضمان سلامته ونباهة شأنه. وفتح القاف في {وقَرّي عينًا} لأنه مضارع قررت عينه من باب رضي، أدغم فنقلت حركة عين الكلمة إلى فائها في المضارع لأن الفاء ساكنة.
{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَدًا فقولى إِنِّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيًّا}.
هذا من بقية ما ناداها به عيسى، وهو وحي من الله إلى مريم أجراه على لسان الطفل، تلقينًا من الله لمريم وإرشادًا لقطع المراجعة مع من يريدُ مجادلتها، فعلّمها أن تنذر صومًا يقارنه انقطاع عن الكلام، فتكون في عبادة وتستريح من سؤال السائلين ومجادلة الجهلة.
وكان الانقطاع عن الكلام من ضروب العبادة في بعض الشرائع السالفة، وقد اقتبسه العرب في الجاهلية كما دلّ عليه حديث المرأة من أحمس التي حجّت مُصمتة.
ونسخ في شريعة الإسلام بالسنة، ففي (الموطأ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا قائمًا في الشمس فقال: ما بال هذا؟ فقالوا: نذر أن لا يتكلم ولا يستظل من الشمس ولا يجلسَ ويصوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مروه فليتكلم وليستظل وليجلس وليُتم صيامه» وكان هذا الرجل يدعَى أبا إسرائيل.
وروي عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه أنه دخل على امرأة قد نذرت أن لا تتكلم، فقال لها: «إن الإسلام قد هدم هذا فتكلمي».
وفي الحديث أن امرأة من أحْمَسَ حجّت مُصمتة، أي لا تتكلّم. فالصمت كان عبادة في شرع من قبلنا وليس هو بشرع لنا لأنه نسخه الإسلام بقول النبي صلى الله عليه وسلم «مروه فليتكلّم»، وعمللِ أصحابه. وقد دلّت الآثار الواردة في هذه على أشياء:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب الوفاء بالنذر في مثل هذا، فدلّ على أنه غير قربة.
الثاني: أنه لم يأمر فيه بكفارة شأن النذر الذي يتعذر الوفاء به أو الذي لم يسم له عمل معيّن كقوله: عليّ نذر.
وفي (الموطأ) عقب ذكر الحديث المذكور قال مالك: ولم يأمره بكفارة ولو كانت فيه كفارة لأمره بها فدلّ ذلك على أنه عمل لا اعتداد به بوجه.